المغرب والسيادة الرقمية: تحديات اقتصاد يتسارع بالرقمنة

0 68

في زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية بوتيرة غير مسبوقة، لم يعد الاقتصاد الرقمي مجرد خيار تنموي أو شعار يُرفع في الخطابات الرسمية، بل أصبح اليوم مسألة بقاء اقتصادي وسيادي. والمغرب، بما يمتلكه من طموح وإرادة إصلاح، يقف عند مفترق طرق حاسم: إما أن يُسرّع اندماجه في الاقتصاد الرقمي العالمي، أو يُفوّت على نفسه فرصة تاريخية لإعادة تشكيل نموذج نموه.

من التحول الرقمي إلى الاقتصاد الرقمي: فارق المفهوم والرؤية
صحيح أن المغرب خطا خطوات مهمة في مجال التحول الرقمي، من رقمنة الخدمات الإدارية إلى تطوير الحكومة الإلكترونية، لكن الانتقال نحو الاقتصاد الرقمي المتكامل لا يزال في بدايته.

فالمسألة تتجاوز رقمنة الوثائق والإجراءات، إلى خلق قيمة مضافة حقيقية من خلال البيانات، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الإلكترونية، والصناعات التكنولوجية.

اقتصاد رقمي بمعناه العميق يعني أن التكنولوجيا تصبح العمود الفقري للنشاط الاقتصادي، وأن الابتكار لم يعد ترفا بل محركا للإنتاجية والتنافسية.

الرهانات الكبرى: سيادة رقمية وفرص عمل
اليوم، تتجه دول كثيرة نحو بناء ما يسمى بـ”السيادة الرقمية”، أي امتلاك البيانات والبنى التحتية والخوارزميات بدل الاعتماد على المنصات الأجنبية.

وهنا يطرح السؤال: هل المغرب مستعد لبناء استقلاله الرقمي؟

الأمر ليس سهل التحقيق، لكنه ممكن.
فالمملكة تتوفر على رؤية استراتيجية تتجلى في “الاستراتيجية الوطنية للتحول الرقمي 2030″، التي تضع المواطن والمقاولة في قلب العملية، وتطمح إلى جعل الرقمنة رافعة للنمو والتشغيل.

غير أن النجاح في هذا الورش يتطلب أكثر من مخططات؛ يتطلب تنسيقا مؤسساتيا فعالا، واستثمارا قويا في الرأسمال البشري، خاصة في مجال المهارات الرقمية.

فالاقتصاد الرقمي ليس فقط بنية تحتية من الألياف البصرية ومراكز البيانات، بل هو أيضا كفاءات قادرة على التفكير، البرمجة، والابتكار. فكل شاب مغربي يتقن لغات البرمجة أو الذكاء الاصطناعي هو رصيد وطني يجب الحفاظ عليه.

مقاولات ناشئة تبحث عن بيئة حاضنة
رغم التحديات، بدأ المغرب يشهد دينامية ملحوظة في عالم المقاولات الناشئة، خصوصا في مجالات “الفينتك” و”الأدتك” و”الذكاء الاصطناعي”. مدن مثل الدار البيضاء، الرباط، وطنجة بدأت تتحول إلى منصات رقمية ناشئة تستقطب شبابا مبتكرين.
لكن العقبة الكبرى تظل في ولوج التمويل والمواكبة القانونية، فريادة الأعمال الرقمية تحتاج إلى نظام ضريبي مرن، وإطار تنظيمي محفز، وإلى إدماج حقيقي في سلاسل القيمة الإفريقية والعالمية.

الرقمنة في خدمة العدالة الاجتماعية
ما يجب ألا نغفله هو أن الرقمنة ليست فقط مشروعًا اقتصاديا، بل رافعة للعدالة الاجتماعية أيضا.
رقمنة الخدمات العمومية، وتعميم الأداء الإلكتروني، وتطوير المنصات التربوية والصحية، كلها أدوات لتقليص الفوارق المجالية والاجتماعية. فحين يتمكن فلاح من تسويق منتوجه عبر تطبيق رقمي، أو طالب في قرية نائية من التعلم عن بُعد، نكون أمام تحول اجتماعي عميق لا يقل أهمية عن الإصلاحات الكبرى.

التحول الرقمي.. ضرورة سيادية
الاقتصاد الرقمي ليس قطاع جديد يُضاف إلى القطاعات التقليدية، وإذا كان المغرب قد نجح في بناء نموذج صناعي تنافسي، خاصة في صناعة السيارات والطيران، فإن التحدي المقبل هو تحقيق الإقلاع الرقمي، بنفس روح الواقعية والطموح التي ميزت التجارب السابقة.

في استراتيجية “Digital Morocco 2030” التي أطلقتها الحكومة عام 2024، تهدف المملكة إلى خلق 240.000 وظيفة مباشرة في القطاع الرقمي بحلول سنة 2030، منها تدريب سنوي لـ 100.000 شاب على مهارات رقمية، و50.000 تحويل مهني (reconversion) استعداداً لمتطلبات المهن الرقمية الحديثة.

كما تتضمّن الاستراتيجية رفع عائدات التصدير الرقمي من حوالي 17,9 مليار درهم في 2023 إلى 40 مليار درهم بحلول 2030، مع دعم توسّع أنشطة التشغيل الرقمي مثل الـ outsourcing، وخلق بين 1000 و3000 شركة ناشئة جديدة، ودعم قدرات البنية التحتية لخدمات الإنترنت وتقنيات الجيل الخامس.

فالرهان اليوم ليس على من يملك الثروات الطبيعية، بل على من يتحكم في البيانات والمعرفة.
والمغرب، إذا استثمر بذكاء في الإنسان، يمكنه أن يكون منصّة رقمية إفريقية لا مجرّد سوق استهلاكية للتكنولوجيا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.